النقطة الأولى: تحديد المجالات:
وتحدد الآية الشريفة الثانية من سورة المائدة هذه المجالات فتقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[2]، فالبر هو كل ميدان إنساني أخلاقي ويشمل كل ما ندب إليه الإسلام ودعا لتحقيقه من أعمال الخير، ويوحي اللفظ بإيكال الأمر إلى الوجدان السليم العام تماماً كما يستفاد من كلمتي (الطيبات) في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث}[3]، وكلمتي (المعروف) و(المنكر) في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[4]، فكأنّ هذه الآيات تتعامل مع الفطرة والوجدان مباشرةً مما يعطينا سعةً إنسانيةً عالميةً في هذه المجالات ولا يحصرنا في مجالٍ ضيق.
فكل خطوة فيها علاء الإنسانية وتقدم حضارتها وقيمها وفي كل المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها هي من عمل البر ونحن مأمورون بالتعاون فيها، وكل عمل يسيء للإنسانية ويعتدي على قيمها ويعرقل مسيرتها ويشيع العدوان وخرق الحقوق الإنسانية نحن منهيون عن الإسهام فيه، بل نحن مدعوون للوقوف بوجهه.
وهذا المعنى هو الذي ينسجم تماماً مع الرسالة العالمية للإسلام، وتقديم الأمة الإسلامية كنموذج حضاري لكل الأمم كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا}.[5]
النقطة الثانية: تقوية المنطلقات:
فنحن نعلم أن النصوص الشريفة تؤكد على الفطرة الإنسانية وأن أحكام الدين كلها منسجمة معها، والنظام التربوي والنظام العبادي بل ومختلف النظم الأخرى تركز على هذا الجانب وتعمل على تقويته، وإننا لنلحظ أن النظام المعرفي يبتني كله على بديهيات الفطرة كما أن النظام التشريعي يعمل على إيجاد التوازن والعدالة في تحقيق متطلبات الفطرة ويتجلى ذلك أروع تجلٍ في النظام الأخلاقي الإسلامي، وكل ذلك يصب في مجال تقوية الدافع الفطري للتعاون في أوسع المجالات. ورغم أن العمل الصالح يراد له أن يكون بدافع إيماني فإن هناك نصوصاً تقيّم العمل بنفسه حتى ولو لم يتم في هذا الإطار كقوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}[6].
{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}[7].
وحتى الجانب المصلحي يحركه الإسلام في مثل {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ}[8].
أو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من لا يَرحم لا يُرحم)[9] أو (ارحموا ترحموا)[10].
النقطة الثالثة: توفير الشروط اللازمة:
والمتتبع لنوعية التخطيط الإسلامي للحياة يجد أن الإسلام يسعى جاهداً لرقي الأمة من جميع الجهات حتى تكون يدها اليد العليا، وتتمتع بالخيرية على الأمم، وإعداد كل الطاقات والقوى لميادين التحدي، وامتلاك قدرات اقتصادية هائلة عبر شكر النعم الإلهية، والاستفادة من كل ما هيأه الله لهذه الأمة وإنكار أي تهاون وكفر بهذه النعم، وأي ظلم في
عملية التنمية أو التوزيع العادل {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[11] كما اعتبر الإسلام أي تقاعس عن إيصال الأمة لما تحتاجه من تقدم على جميع المستويات إخلالاً بالواجبات الكفائية التي لو أدّاها من فيهم الكفاية سقطت، ولو لم يؤدها هؤلاء توجه اللوم والتحذير لكل الأمة.
إن الأمة النموذجية لا يمكن أن تحمل صفات الضعف مطلقاً بل عليها أن تكون أمّةً وسطيةً تمتلك كل معاني العطاء حتى تمتلك التأثير المطلوب.
ثم إن التعاليم الإسلامية وبالخصوص التربية الإسلامية تعمل على إشاعة الثقة بين أبناء المجتمع الإسلامي قبل كل شيء وترفض كل ما يخل بها من اتّباع الظنون والتهم والتجسس والغيبة والتهمة وتدعو لحمل عمل المسلم على الصحة والتواصل مع الآخرين والتعاون والإيثار وإيفاء المسلمين حقوقهم إلى غير ذلك.
أمّا على الصعيد الدولي فإن الأمة الإسلامية تتعامل بكل موضوعية واحترام مع الآخرين حتى لو لم يكونوا مؤمنين {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[12]. والأمة تجنح للسلم إن جنح الآخرون {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[13].
ولا مانع من أن تقوم العلاقات الودية مع الآخرين إن لم تبد منهم بوادر التآمر {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}[14] والعدالة والقسط هما هدف هذه الأمة، والدفاع عن المستضعفين والمحرومين صفتها إلى ما هناك من أمور من شأنها إشاعة الثقة، وتوفير أجواء التعاون على الصعيد الدولي فإذا ما عقدت اتفاقيات دولية كانت هذه الأمة مأمورة تماماً بالوفاء بالعهود.
ثم إن هذه الأمة رُبِّيت على اكتشاف المساحات المشتركة عبر الحوار الهادئ حتى مع الكافرين، ودعوة أهل الكتاب للعمل مع المسلمين على كلمة سواء {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه}[15].
وبهذا نجد أن الإسلام وفّرَ الشروط التي ذكرنا آنفاً بأروع شكل.
النقطة الرابعة:
بعد هذا نستطيع أن نقول إن الإسلام نشر في الأمة ثقافة القيم المنسجمة مع التعاون بشكل واسع، فأعطى أسساً نظرية جامعة للحوار توضح مفروضاته، ومنهجه وأخلاقه وأهدافه، كما أعطى المؤمنين أفضل صفة وأعمها حين قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم}[16] وقرر مبدأ الاستخدام والتسخير المتبادل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّا}[17] ثم رسم للبشرية خطاً واحداً تنطلق فيه من أب وأم وتسير مستهدية بهدى الله يقودها الأنبياء والصالحون لإعمار الأرض مستخلفة عليها من قبله تعالى كادحة نحو تكاملها. {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}[18] عاملة على الوصول إلى المجتمع المتقي العابد {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا} إنها مسيرة واحدة يشعر الجميع بوحدتها ويعمل الكل على رفدها بكل عناصر الرقي والتكامل. ومن هنا جاء مفهوم الأخوة الدينية والأخوة الإنسانية ليقول الإمام علي (ع) لعامله الأشتر في أروع وثيقة تاريخية ما نصه: (واشعر قلبك للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)[19].
ويجب التذكير هنا من جديد بمسألة تركيز الإسلام على المسألة الفطرية وضرورة تجليتها في السلوك الإنساني.
النقطة الخامسة: تذليل العقبات:
ولا نجدنا بحاجة إلى كثير من الشرح لدور الإسلام في عملية إبعاد النفوس عن المادية السلوكية بعد التخطيط لإبعادها عن المادية العقائدية، وكذلك إبعادها عن النظرات الفردية الضيقة الشرهة، والطمع والجشع والكراهية، وبالتالي إبعادها عن كل ما يشكل عقبة في طريق التعاون والتكافل. إن عالمية الإسلام تقف على الخط المقابل للعولمة اليوم فلا تحمل سلبياتها بل تعمل على إشباع متوازن لتوق البشرية لعالم جديد تسوده العدالة والإنصاف ويحكمه التعاون البناء.
وقد تحدثنا قبل هذا عن عمل الإسلام على نفي التشكيك في النوايا ما استطاع وإشاعة الثقة والحب العام لتوفير جو تعاوني رحيم.
النقطة السادسة: فقه العلاقات الدولية:
وقد ركز فقه العلاقات الدولية على عناصر كثيرة منها:
أ ـ المبدئية والأخلاقية في التعامل.
ب ـ عنصر التوعية والصراحة في الاتفاقات الدولية ونفي أي إيهام أو غرر أو ظلم أو انظلام.
ج ـ تأليف القلوب وتحقيق الانسجام.
د ـ احترام العهود والعقود.
هـ ـ التعامل بالمثل سلباً وإيجابا ـ مع ترجيح جانب العفو والفضل والتسامح.
وغير ذلك. وكلها مبادئ تصب لصالح عملية التعاون الدولي فضلاً عن الإقليمي لأن مفهوم الجوار يتسع اليوم ليشمل أبناء المنطقة الإقليمية كلهم. وللجوار حقوقه المسلّمة.
وأخيراً:
فإننا نعتقد إن على الأمة الإسلامية أن تشكل مثالاً يحتذى به للتعاون شريطة أن يكون واعياً فلا يعود عليها بالضرر والله تعالى إذ دعا هذه الأمة للوقوف إلى جانب الحق والخير ضمن لها أن يعينها إذا تآمر العدو أو قلب ظهر المجن.
يقول تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ E وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ E وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [20].
Widget for blogger by WidgetBlogs
التعريف
إسمي ياسين ،بلدي هو المغرب ، أهتم بتقنيات وتطوير المدونات ،هدفي من خلال هذه المدونة ،هو مساعدة التلاميذ و الطلبة خاصة و جميع المغاربة عامة في ايجاد المواضيع و الوثائق الادارية التي يحتاجونها في حياتهم اليومية.









0 التعليقات:
إرسال تعليق